داود بن المُحَبَّر قال: أخبرنا عبدُ الواحد بن الخطاب قالت: أقبلنا قافلين من بلاد الروم حتى إذا كُنَّا بين الرُّصافة وحِمْص، سمعنا صوتًا من تلك الجبال، تَسمعه آذاننا ولا تُبصره أبصارنا، يقول: يا مَسْتُوريا مَحْفوظ، انظر في سترْ مَن وحِفْظ مَن أنت، إنما الدنيا شَوْك، فانظر أين تَضَع قدمَيْك منها. وقال أبو العتاهية:
رَضيت بذي الدنيا كَكُل مُكاثر ** مُلِحّ على الدنيا وكلِّ مُفاخِرأَلم تَرَهَا تَسْقِيه حتى إذا صَبا ** فَرَت حَلْقَه منها بِشَفْرة جازرولا تَعْدلُ الدنيا جَناح بَعُوضة ** لدى الله أو مقدارَ نَغْبْةِ طائرفلم يَرْضَ بالدنيا ثوابًا لمُؤْمن ** ولم يَرْضَ بالدنيا عِقابًا لكافروقال أيضًا:
هي الدنيا إذا كَمُلتْ ** وتَمَّ سرُورُها خَذَلتْوتَفعل في الذين بَقوا ** كما فيمن مَضى فَعلتَوقال بعضُ الشعراء يصف الدنيا:
لقد غرت الدنيا رجالًا فأصبحوا ** بمنزلةٍ ما بعدها متحوَّلُفساخِطُ أَمْر لا يبَدَّلُ غيرَه ** ورَاضٍ بأمر غيرَه سيبدلُوبالغُ أمر كان يأمل دونه ** ومخْتَرَم من دون ما كان يأمُلوقال هارون الرشيد: لو قيل للدنيا صِفي لنا نفسك، وكانت ممّن يَنْطق، ما وَصفت نفسها بأكثر من قول أبي نُواس:
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكَشَّفت ** له عن عدوٍّ في ثِياب صديقِوما الناسُ إلا هالكٌ وابن هالكٍ ** وذو نسَبٍ في الهالكين عَريقوقال آخر في صفة الدنيا:
فَرُحْنا وراح الشَامِتون عَشِيَّةً ** كأَنَّ عَلَى أكتافنا فِلَق الصخْرِلحا الله دُنيا يَدْخل النارَ أَهْلُها ** وتَهْتك ما بين الأقارب من سِترولأبي العتاهية:
كُلَّنَا يُكثر الملامةَ للدن ** يا وكل بِحُبِّها مَفْتُونوالمقاديرُ لا تناوَلُها الأوْ ** هام لُطْفاَ ولا تراها العُيونولركب الفَناء في كلِّ يومٍ ** حَرَكات كَأنَّهنَّ سُكونومن قولنا في وصف الدنيا:
ألا إنما الدُّنيا نضارة أَيْكةٍ ** إذا اخضرَّ منها جانبٌ جَفَّ جانبُهِيَ الدَّار ما الآمالُ إلا فَجَائع ** عليها ولا اللَذاتُ إلا مصائبفكم سَخُنت بالأمس عين قَرِيرة ** وقَرَّت عُيُون دمعُها اليوم ساكِبُفلا تَكْتَحلْ عَيْناك فيها بِعَبْرَة ** على ذاهب منها فإنك ذاهبوقال أبو العتاهية:
أَصْبَحَتْ الدنيا لنا فتنةً ** والحمد للّه على ذلِكَاقد أَجْمَعَ الناسُ على ذَمِّهَا ** ولا أرى منهمْ لها تارِكاوِّقال إبراهيم بن أدهم:
نُرَقع دُنْيانا بِتَمْزيقِ دِيننا ** فلا دينُنا يَبقى ولا ما نُرَقِّعوما سمعتُ في صفة الدُنيا والسبب الذي يُحبها الناسُ لأجله بأبلغ من قول القائل:
نراع بِذْكر المَوت في حين ذِكْره ** وتَعْترض الدنيا فَنَلْهُو ونَلْعَبُونحن بنُو الدُّنيا خُلِقْنا لغَيرها ** وما كنتَ منه فهو شيء مُحببفذكر أن الناس بنو الدنيا وما كان الإنسان منه فهو محبّب إليه.واعلم أنّ الإنسانَ لا يُحبّ شيئًا إلاّ أن يُجانَسه في بعض طبائعه، وأنّ الدنيا جانَسَت الإنسان في طبائعه كلها فأحبَّها بكل أطرافه.وقال بعض ولد ابن شُبْرمة: كنتُ مع أبي جالسًا قبل أن يلي القضاء فمر به طارقُ بن أبي زياد في مَوْكب نبيل، فلما رآه أبي تَنفَس الصُّعَدَاء وقال:
أراها وإنْ كانت تُحَبُّ كأنَّها ** سحابةُ صَيْفٍ عن قلِيل تقشعُثم قال: اللّهم لي دِيني ولهم دُنياهم. فلما ابتلى بالقْضاء، قلتُ: يا أبتِ، أتذكر يومَ طارق؟ فقال: يا بُنِى، إنهم يَجدون خَلَفًا من أبيك وإنّ أباك لا يَجد خَلَفًا منهم، إنّ أباك خَطَب في أهوائهم، وأكل من حَلْوائهم.وقال الشَّعبي: ما رأيتُ مَثَلَنا ومثِلَ الدنيا إلا كما قالت كُثَيِّر عَزَّة:
أسِيئي بنا أَوْ أَحْسني لاَ مَلومةَ ** لَدَينا ولا مَقْلِيةً إن تَقَلَّتِوأحكُم بيتٍ قيل في تَمْثِيل الدنيا قولُ الشاعر:
ومَن يأمَن الدنيا يكن مثلَ قابض ** على الماء خانَتْه فُروجُ الأصابعوحَدّث العبّاس بن الفَرج الرِّيَاشي قال: رأيت الأصمعيّ يُنْشد هذا البيتَ ويستحسنه في صفة الدنيا:
ما عذر مُرْضِعَةٍ بكا ** س الموت تَفْطِم مَنْ غَذَتْفصل نفيس في ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها والزهد فيها:
.قال صاحب المستطرف:
قال الله تعالى:
{قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن أتقى} [النساء: 77]. فوصف سبحانه وتعالى جميع الدنيا بأنها متاع قليل، وأنت أيها الإنسان تعلم أنك ما أوتيت من القليل إلا قليلا ثم إن القليل إن تمتعت به فهو لعب ولهو لقوله تعالى:
{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة} [الحديد: 20]. وقال تعالى:
{وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64]. فلا تبع أيها العاقل حياة قليلة تفنى بحياة كثيرة تبقى، كما قال ابن عياض: لو كانت الدنيا ذهبًا يفنى، والآخرة خزفًا يبقى، لوجب علينا أن نختار ما يبقى على ما يفنى، ثم تأمل بعقلك هل أتاك الله من الدنيا مثل ما أوتي لسليمان عليه الصلاة والسلام حيث ملكه الله تعالى جميع الدنيا من إنس وجن وسخر له الريح والطير والوحوش، ثم زاده الله تعالى أحسن منها حيث قال:
{هذا عطاؤنا فآمنن أو أمسك بغير حساب}.فوالله ما عدها نعمة مثل ما عددتموها ولا حسبها رفعة مثل ما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجًا من حيث لا يعلم فقال:
{هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل: 4]. وهذا فصل الخطاب لمن تدبر. هذا وقد قال لك ولجميع أهل الدنيا:
{فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 93]. وقال تعالى:
{وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47].وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء». وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ألا أريك الدنيا بما فيها؟ قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق بالية وعظام البهائم، فقال: يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم وهي اليوم صارت عظامًا بلا جلد، تم هي صائرة عظمًا رميمًا، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبتموها في الدنيا فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياشهم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد. فمن كان باكيًا على الدنيا فليبك قال: فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا».وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبه، فبكي عمر رضي الله تعالى عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: تذكرت كسرى وقيصر. وما كانا فيه من سعة الدنيا، وأنت رسول الله، وقد أثر الشريط بجنبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهما الدنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا قي الآخرة. وروي عن الضحاك قال: لما أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض ووجدا ريح الدنيا وفقدا ريح الجنة غشى عليهما أربعين يومًا من نتن الدنيا. وعن ابن معاذ قال: الحكمة تهوى من السماء إلى القلوب فلا تسكن في قلب فيه أربع خصال: ركون إلى الدنيا، وهم عدو وحسد أخ وحب شرف، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: يا علي أربع خصال من الشقاء، جمود العين، وقسوة القلب، وبعد الأمل، وحب الدنيا. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يؤتى يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء العينين أنيابها بادية، مشوهة الخلق لا يراها أحد إلا هرب منها، فتشرف على الخلائق أجمعين فيقال هم: أتعرفون هذه؟ فيقولون: لا نعوذ بالله من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم بها وتقاتلتم عليها. وعن الفضل بن عياض أنه قال: جعل الخير كله في بيت واحد، وجعل مفتاحة الزهد في الدنيا. وجعل الشر كله في بيت واحد. وجعل مفتاحه حب الدنيا. وقيل: إن الدنيا مثل ظل الإنسان إن طلبته فر، وإن تركته تبعك، وفيه قال بعضهم:
إنما الرزق الذي لا تطلبه ** يشبه الظل الذي يمشي معكأنت لا تدركه متبعًا ** وهو وإن وليت عنه تبعكوقد شببها بعضهم بخيال الظل فقال:
رأيت خيال الظل أعظم عبرة ** لمن كان في علم الحقائق راقيشخوصًا وأصواتًا يخالف بعضها ** لبعض وأشكالا بغير وفاقتجيء وتمضي بابة بعد بابة ** وتفنى جميعًا والمحرك باقيوما أحسن ما قال سليمان بن الضحاك:
ما أنعم الله على عبده ** بنعمة أوفى من العافيهوكل من عوفي في جسمه ** فإنه في عيشة راضيهوالمال حلو حسن جيد ** على الفتى لكنه عاريهما أحسن الدنيا ولكنها ** مع حسنها غدارة فانيهوتوفي رجل من كندة فكتب على قبره هذه الأبيات:
يا واقفين ألم تكونوا تعلموا ** إن الحمام بكم علينا قادملو تنزلون بشعبنا لعرفتمو ** أن المفرط في التزود نادملا تستعزوا بالحياة فإنكم ** تبنون والموت المفرق هادمسلوى الردى ما بيننا في حفرة ** حيت المخدم واحد والخادموقال آخر:
عن قليل أصير كوم تراب ** وتقول الرفاق هذا فلانصار تحت التراب عظمًا رميمًا ** وجفاه الأصحاب والخلانوما أحسن ما قال عبد الله بن طاهر:
أليس إلى ذا صار آخر أمرنا ** فلا كانت الدنيا القليل سرورهافلا تعجبي يا نفس مما ترينه ** فكل أمور الناس هذا مصيرها